أخبار محلية

القوّات اللبنانيّة وثالوث العقيدة: الأرض والإنسان والحرية


كتب د. ميشال الشمّاعي في “المسيرة” ـ العدد 1746

لا يمكن لأيّ شعب أن يبقى حيًّا إذا لم ينجح في بناء قضيّة يناضل من أجلها. على أن تكون هذه القضيّة هدفًا وجوديًّا ليثبّت فعل وجوده في هذا الكون. هذا الفعل الذي لا منّة لأحد عليه به سوى ربّ القوّات السماويّة، لأنّه هو الذي أوجدنا أحرارًا يوم أعطانا هذه الحياة وحقّ العيش فيها بكلّ حرّيّة.

وهذه القضيّة لا تبقى حيّة إلا إذا استطاع الإنسان تحويل فعل وجوده الطبيعي إلى فعل حضور. وليس أيّ حضور بيولوجي يقتصر فقط على الوجود الجسدي، إنّما حضور بملء اللوغوس ليكرّس قانون الوجود الذي لا يقوم إلا على مبادئ العقل والمنطق، فيستطيع بذلك الحفاظ على قانون العالمين الطبيعي والروحي في إطار وحدة الوجود ما بين العقل والروح.

 

مرحلة الثالوث الأوّل: الأرض والإنسان والحرّيّة

استمدّ الشعب اللبناني عقيدة وجوده من ارتباطه بهذه الأرض التي عاش فيها حرّيّته على مرّ العصور. فارتبط وجوده بثالوث وجوديّ قوامه الأرض والإنسان والحرّيّة. وأيّ مبدأ فكري أو اجتماعيّ أو سياسيّ أو اقتصاديّ أو غير ذلك وفد إلى رحابه متناقضًا مع أقنوم من هذه الأقانيم الثلاثة، رفضه رفضًا قاطعًا.

لذلك، تقبّل اللبناني الأديان الإبراهيميّة، ولا سيّما المسيحيّة لأنّها من طبيعة هذه الأرض؛ فعاش قناعاته بوساطتها عبر التّاريخ. حتّى صارت المسيحيّة تعني لبنان. والأكثر من ذلك، نجح بالارتقاء في تحويل إيمانه المسيحي في هذه الأرض إلى أنموذج يُحتذى في العالم بأسره، وذلك عبر النّهج المارونيّ النّسكيّ. فصارت المارونيّة نهج حياة لهذا الشعب، وإيمانًا بعقيدة الثالوث الوجودي فيها.

 

مرحلة الثالوث الثاني: صمود ومواجهة ومقاومة

تحوّلت هذه الأرض نتيجة طبيعتها التّكوينيّة إلى حصون وقلاعٍ طبيعيّة احتمى فيها اللبناني من مخاطر هذه الطبيعة. لكنّ موقع هذه الأرض الجيوبوبليتيكي في وسط الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط جعل منها معبرًا للحضارات كافّةً. فصار الساحل اللبناني ممرًّا إلزاميًّا لطريق القوافل الساحليّة، وهذا ما حتّم اصطداما مع الذين استوطنوا فيه. ولا سيّما مع بدايات الفتح العربي الإسلامي، حيث أصبحت المدن الساحليّة مرافئ لتنطلق منها القوافل. فتحوّلت الجبال إلى دساكر وحصون احتموا فيها.

ولأنّ الفعل المسيحي يقوم على الشهادة للحقّ، رفض هذا الشعب أن ينكر حقيقته ويتحوّل عقائديًّا مع التحوّل الذي شهده محيطه الجغرافيّ، وقرّر الحفاظ على شهادته حتّى الاستشهاد. من هنا، وُلدت المقاومة المسيحيّة مع القادة الموارنة الأوائل وعلى رأسهم البطريرك مار يوحنّا مارون الذي رفض الانصياع إلى الواقع الاحتلالي. فحصّن شعبه، وبنى له مجتمعًا فاعلاً حيًّا، وأداره بأفضل طرق تنظيميّة حتّى غدا الشعب الماروني في تلك المرحلة رقمًا صعبًا، وعاصيًا على الانكسار.

في هذه الحقبة وُلدت فكرة الوطن الذي يضمن وجود هذا الشعب، ويؤمّن له عيش قناعاته الإيمانيّة المسيحيّة بالذات بكلّ حرّيّة. وليبقى ويستمرّ في هذا الوطن قرّر الصمود والمواجهة والمقاومة. فوُلد ثالوث وجوديّ جديد مع نهج حياتيّ جديد استمرّ أكثر من ألف سنة.

 

مرحلة الثالوث الثالث: معرفة، ممارسة، التزام

ولكن لأنّ الماروني حيّ متفاعِلٌ مع حضورِه، لم يكتفِ يومًا بممارسة فعل وجوده، خرج من حصونه وقلاعه، جغرافيًّا وفكريًّا وحضاريًّا، ليخترق حصون الآخرين المحيطين بجغرافيّته. ولم يكن يومًا خروجه هذا بدافع إحتلاليّ أو توسّعيّ جغرافيٍّ، إنّما كان دائمًا بدافع حضاريٍّ هدفه معرفة الآخر المختلف حضاريًّا. لذلك، تعرّف إلى تاريخه عبر الدّراسات التي نجح بتحصيلها واستطاع أن ينقل مجتمعه بعد مجمع اللويزة في العام 1736 من مجتمع يرزح تحت نير الإقطاع على مختلف أشكاله إلى مجتمع يعيش حرّيّته بفضائها الوطنيّ اللبنانيّ الواسع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!