
بقلم جورج الريّس المصدر أخبار البلد Jan 12, 2025
قراءة واقعية في جدلية الطموح والهويّة:
لبنان، تلك الأرض الصغيرة التي حملت على كتفيها أحلامًا أكبر من حجمها، ما زالت ترزح تحت لعنة الأحجام التي رافقت مسيرتها منذ فجر تاريخها. وكأن الجغرافيا التي جعلت جباله ملاذًا للأقليات المضطهدة أبت إلا أن تكون شاهدًا على نزاعات لا تهدأ بين سكانه، الذين لم يتوقفوا يومًا عن مواجهة أقدارهم أو تحدي دور وطنهم الطبيعي.
منذ بزوغ فجر الإمارة اللبنانية، كان الأمير فخر الدين الثاني أول من أطلق صرخة الطموح في هذا الوادي الضيق، لكنه سرعان ما وقع ضحية أحلامه المتوسعة وعلاقاته الخارجية. كان الأمير يُدرك أن جبال لبنان لا تسعه وحدها، فسعى إلى توسكانا ونسج العلاقات، لكن ثمن تلك الأحلام كان حياته. فخُنق في إسطنبول عام 1633، وطويت صفحة من تاريخ الدروز الذين حلموا بالسيطرة في زمن كان الحياد خيار الأرض وشريعتها.
وفي القرن التاسع عشر، ظهر الأمير بشير الثاني الذي رأى في إبراهيم باشا المصري حليفًا يعزز من سلطته، ليقف في وجه العثمانيين. لكنه، كما سابقه، دفع الثمن عام 1842 حين أُجبر على النفي، لتطوى مرة أخرى صفحة الطموح الدرزي الذي خالف طبيعة لبنان المنطوية على ذاتها.
لم تكن لعنة الأحجام حكرًا على الطوائف الكبرى. فحين حلم أنطون سعاده، زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، بتجاوز حدود لبنان نحو سوريا الكبرى، اصطدم بالحقيقة القاسية. كان حلمه كبيرًا على وطن صغير، وحاول كسره بانقلاب أُجهض سريعًا. تم تسليمه من قبل حسني الزعيم إلى السلطات اللبنانية، ليُعدم في ليلة واحدة، وطُويت معه صفحة من الأحلام الأرثوذكسية بالانصهار الإقليمي.
ومع مجيء كمال جنبلاط، عاد الحلم الدرزي ليطفو، ولكن هذه المرة بشعارات الأممية وإلغاء الطائفية السياسية. تمكن جنبلاط من بسط نفوذه على مساحات واسعة من لبنان، بالتعاون مع منظمة التحرير الفلسطينية وأحزاب اليسار، إلا أن اغتياله عام 1977 أوقف عجلة التمدد الدرزي وأعاد الطائفة إلى حدودها الجغرافية والاجتماعية.
ثم أتى دور المارونية السياسية التي بلغت ذروتها مع انتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية عام 1982. رجل قوي، استطاع أن يهزم خصومه كافة، وأن يعيد الهيمنة المارونية إلى قمة السلطة بعد أن اهتزت منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975. لكن الاغتيال لم يمهل الجميل طويلًا، ليطوي معه صفحة المارونية السياسية في أوج قوتها.
في مطلع القرن الواحد والعشرين، برز رفيق الحريري كزعيم سني عابر للطوائف، مستمدًا قوته من علاقاته الدولية وحضوره المحلي. لكن اغتياله عام 2005 جاء ليقضي على الطموح السني، الذي تكرّس بعد اتفاق الطائف، ويعيد البلاد إلى دوامة التوازنات المختلة.
واليوم، بعد أن أصبح حزب الله اللاعب الإقليمي الأقوى، ممسكًا بزمام القرار في الداخل اللبناني، جاءت ضربة قاسية باغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله وعدد من قادته، لتطوى بذلك صفحة الأحلام الشيعية التي أرادت قلب النظام اللبناني.
إنها لعنة الأحجام والتمدد التي ما زالت تُلاحق اللبنانيين، وكأنهم يرفضون أن يتعلموا من تاريخ وطنهم. هذا الوطن، الذي لم يكن يومًا أكثر من ملجأ تاريخي للأقليات، صُممت جباله ليكون وادي سلام، لا ساحة معركة.
فهل يتوقف اللبنانيون عن تحدي طبيعة أرضهم؟ هل يمكن لكل طائفة أن تنظر إلى نفسها بعين الحقيقة، وتُدرك أن سردياتها التاريخية الخاصة لن تُبنى إلا على أنقاض الوطن؟
إن السبيل الوحيد للخروج من لعنة التاريخ هو بالعودة إلى جذور الجغرافيا، إلى لبنان كحياد حي، وكوطن ملجأ يعيش فيه الجميع بسلام. فهل يمتلك اللبنانيون شجاعة الحوار الوطني؟ وهل يُمكن للطوائف أن تُعلن حياد الوطن، لتكتب صفحة جديدة من تاريخ لم تعد الأحجام فيه لُعنة، بل تناغمًا بين حجم الأرض وحجم الأحلام؟
من مشروع ” لبنان بين الوطن الملجأ ودولة الحياد”
ل جورج ر. الريّس