
قلّة تعرف عن العلاقة بين الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وهي تعود إلى عام 1987، حين التقاه في سويسرا، وقد سأله الحريري عما هي أهداف عمله السياسي؟ ولأي أهداف تقاتل “القوّات اللبنانيّة”؟ فأجابه جعجع “إننا نقاتل من أجل لبنان وفنّد له الأسباب…”. كان الحريري يصغي إليه أثناء إجابته وعندما انتهى قال له “لا اعتراض لي على أي من هذه الأهداف إلا أنه لدي سؤال واحد هل ستحقق كل هذه الأهداف بنفسك وحيداً؟”. عندها أيقن جعجع أن البلد بحاجة دائماً إلى تفاهمات من أجل تحقيق الأهداف التي يريدها…يمكن أن تكون، وفق تعبيره أشرف الأهداف إلا أنها تبقى من دون معنى إن لم نحققها، وإن بقي الإنسان يعمل وحيداً فهو لن يصل إلى أي مكان!
اتفق الرجلان على التواصل الدائم في ما بينهما وأصبح لديهما خط مباشر غير مكشوف كانا يتواصلان عبره للتداول في الأمور كافة. وكانا في تداول مستمر في مرحلة الطائف وصولاً إلى إقراره حيث عاد الحريري للاستقرار في بيروت وباتا يلتقيان من وقت إلى آخر…
أما اللقاء الآخر الذي لا يقل أهمية فكان في شباط 1994، أي قبل اعتقال جعجع وحلّ حزب “القوات” بشهرين. فقد دعاه مع زوجته ستريدا لتناول العشاء الذي ضم إلى الرئيس الحريري زوجته نازك. واللقاء تم بين الرجلين في ظروف لا يُستهان بها، وفي ظلّ ضغط تصاعدي واعتقالات غير مبررة كانت تطال القواتيين، والمبرر واحد: اتهامات بأفعال الحرب والخلفيات السياسية والأفكار الانقلابية. في ذاك الحين، التقى جعجع بالحريري، للتباحث حول موقف “القوات اللبنانية” من الحكومة، حيث أصر الحريري على إشراك “القوات” في السلطة، لضرورة وضع كل الأطراف جهودهم من أجل بناء البلد. بعد هذا العشاء، زاره جعجع مرّة أو مرتين في قريطم في مناسبات مختلفة وقد اقتصرت المواضيع بينهما على مناقشة مسائل معيّنة تستوجب البحث وتتطلب إيجاد حلول لها.
بعدها، تعرض جعجع لأسوأ أنواع الاضطهاد، وبات أسيراً للنظام الأمني اللبناني – السوري في أقبية وزارة الدفاع، معرضاً لاتهامات ملفّقة نبشها هذا النظام من ايام الحرب مركباً السيناريو تلو الآخر، إلا أنه بقي مطلعاً بالحد الأدنى على ما يحصل في الخارج.
في العام 1998، ورغم اعتقال رئيس حزب “القوات”، خاضت الانتخابات البلدية، وحققت انجازاً بعدما تحالفت مع الرئيس رفيق الحريري في بلدية بيروت، حتماً هي استفادت من بذور تحالف نشأت بين الحريري وجعجع قبل اعتقاله. وقد فاجأت “القوات” الجميع في تحقيقها نتائج باهرة في الانتخابات البلدية شملت كل البلدات والقرى اللبنانية، وأهمها فوز جو سركيس في عضوية بلدية بيروت.
هذا الانتصار أنعش الداخل القواتي وأنعش قلب سمير جعجع في السجن. توجّهت ستريدا إلى السجن وأخبرته عن النتائج فكاد أن يطير من الفرح، وأدمعت عيناه وقال لستريدا “الدنيا لا تزال بألف خير”.
في العام 2004 وصلت الحركة الطالبية إلى الذروة، وأهم ما حققته مسيرة ضمت الآلاف من الطلاب ومناصري “القوات” إلى بكركي، وقد اتخذ خلالها البطريرك مار نصرالله بطرس صفير أوضح موقف في ما يتعلق بقضية اعتقال جعجع وطالب بإطلاق سراحه. وكان ذلك في نيسان 2004، وكانت الأجواء السياسية مؤاتية لولادة “قرنة شهوان” و”لقاء البريستول”، إضافة إلى تحوّلات سياسية في موقفي النائب وليد جنبلاط والرئيس رفيق الحريري. وفي تلك الفترة، بدأت لقاءات بين شباب من “القوات” وحركة اليسار الديموقراطي و”التقدمي الاشتراكي” و”المستقبل”. وقبل شهر على اغتيال الحريري اتصل بستريدا وعايدها قائلاً “انشالله هالسنة تكون خير عليك…أنا عندي ملء الثقة يا ستريدا إنو هالسنة رح يكون الحكيم معنا”.
وفي 14 شباط 2005، دوى انفجار كبير أودى بحياة الرئيس الحريري وعدد من الشهداء الأبرياء، وفي اليوم نفسه، أتى العسكري إلى جعجع ليبلغه عن الغاء النزهة، فاستغرب جعجع وفكّر بأن الغاء النزهة لا يكون إلا في حال حصول أمر ما أمني في البلد. بعد قليل، لاحظ وجود حركة كثيرة في المبنى، وكلّما كان يدخل عسكري إلى زنزانته ليأخذ منه لائحة الأغراض أو يقدّم له العشاء، كان يرى على وجهه حدثاً غير عاديّ. الأمر الأول الذي توقّعه جعجع كان اغتيال وليد جنبلاط، لأنه كان يعتبر تحركاته خطرة وقد يحاولون قتله، ولم يفكّر بتاتاً أنهم قد يغتالون رفيق الحريري.
ولم تمض ساعات قليلة حتى تجمّعت المعارضة في قصر قريطم (مقر الحريري) وأصدرت بياناً شديد اللهجة، محمّلة النظام الأمني اللبناني – السوري المسؤولية عن جريمة اغتيال الحريري، وتلا البيان باسم السبع.
في اليوم التالي، كان وقت مواجهة جعجع مع أهله وزوجته، لكن ستريدا لم تأت بل حضر والداه، فشعر جعجع بأمر غير طبيعي على وجهيهما، فبادرته والدته قائلة “قتلوا رفيق الحريري”.
لم يستوعب الخبر بسرعة، استغرق وقتاً ليفكّر بما حصل وتأثّر كثيراً. كان رأيه بالحريري مميزاً جداً، إذ اعتبر أن الانسان ممكن أن يكون مع الحريري في السياسة أو ضده، لكن الرجل لم يدخل الحرب ولم يقتل أحداً ولا أحد حاربه، وهو صوّت مع التمديد للرئيس لحود مرغماً. وكان مستغرباً لدى جعجع أن يلاقي الحريري هذا المصير، وكان اغتياله على المستوى الانساني أمراً من الصعب فهمه، مما جعل جعجع في حالة ثورة، لكنه بدأ يعي انها بداية النهاية.
قرأ جعجع في مجلة “ايكونوميست” ان التظاهرات تسود الساحة اللبنانية بعشرات آلاف المواطنين، فنظّم حزب الله تظاهرة ضمّت نصف مليون مواطن، ما حجّم التظاهرات السابقة. وتبادر إلى ذهن جعجع ان القوى السيادية لن تبقى مكتوفة وستبادر إلى ردة فعل قوية. وسرعان ما دعت هذه القوى إلى تظاهرة في 14 آذار تجاوز عدد المشاركين فيها المليون مواطن، ملأوا الساحات والشوارع المؤدية إلى ساحة الشهداء، وتم بموجبها انسحاب الجيش السوري ومخابراته من لبنان.
في هذا الوقت، ووسط تدحرج كرة الثلج، تلقّفت “القوات” اللحظة التاريخية ودفعت بعض الحلفاء إلى اعداد مشروع قانون معجل للعفو عن سمير جعجع وبات خروجه من المعتقل عملية وقت ليس إلا.