أخبار محلية

بقلم الكاتب والصحافي الاستاذ أمجد اسكندر

 

حدث في “15 كانون”

1985 و1986 كانتا بالنسبة إليّ كعنوان فيلم
The Year of Living Dangerously
محفوفتين بالمخاطر. الفيلم يروي مغامرات خطيرة لصحافي أسترالي في نظام الديكتاتور سوكارنو في أندونيسيا. في موازاة وضعي المتواضع، كان سمير جعجع مُحاصراً بأربعة خصوم: سوريا وإيلي حبيقة وميشال عون وأمين الجميل. في المقابل كان كميل شمعون الحليف المعنوي الكبير لجعجع. وكانت المناطق المحررة، ساحة تبادل الرسائل والمكامن السياسية والأمنية: انفجار في مقر الجبهة اللبنانية في عوكر، بتوقيع إيلي حبيقة. مكمن على طريق نهر الموت ضد إيلي حبيقة، بتوقيع أمين الجميل. تبادل مناوشات ليلية بين مقر القيادة ومقر جهاز الأمن في الكرنتينا. معركة مُخططٌ لها بين حبيقة وعون، اتفقا فيها على الآتي: حبيقة يهاجم مواقع لأمين الجميل في برج حمود، فيُسارع عون إلى نشر وحداته العسكرية للضغط على الجميل وجعجع في آن للحد من حرية تحركهما لمنع “الاتفاق الثلاثي”. ميشال عون لم يكن شريكاً ميدانياً مع حبيقة وحسب، بل كان أيضاً الشريك الذي كتب الشق العسكري من “الاتفاق الثلاثي”، الذي يتضمن: علاقة “تكامل مع سوريا” و”المثالثة ضمن المناصفة” وإلغاء الطائفية السياسية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية. نعم عون وافق على “اتفاق الإذعان لسوريا” كما أسماه الراحل جوزيف أبو خليل وعارض الطائف الذي منع “المثالثة” ووضع جدولاً لانسحاب الجيش السوري! أكثر من ذلك ويا للمصادفات… وُعِدَ حبيقة ماضياً بما ناله عون لاحقاً: مقابل تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية يُعطى حبيقة عشرة وزراء وما فوق العشرين نائباً. أليس هذا ما عاد وحصل في “تفاهم مار مخايل” بين عون وقائمقام حافظ الأسد، أي “حزب الله” الذي بفضله نال عون كتلة نيابية وازنة و11 وزيراً؟
عشية “15 كانون” كان الوضع: أحزاب قسَّمها إيلي حبيقة إلى أحزاب. “العمل” جريدة حزب الكتائب أصبحت جريدتين. وإذاعة “صوت لبنان” الكتائبية وضعها حبيقة على “موجة سياسية” بعيدة جداً من موجة إذاعة “لبنان الحر”. وحدها مجلة “المسيرة” عصت على “الاتفاق الثلاثي”، وحين صدرت بعنوان “الاتفاق على نهر الموت”، صادرت قوة أمنية تابعة لحبيقة المجلة. من منطقة أخرى ومن مطبعة أخرى بقيت “المسيرة مستمرة”. كانت أياماً صعبة. وتوخياً للسلامة، وبعد معلومات عن لائحة تصفية لمؤيدي سمير جعجع، اخترت السلامة والمنامة في مكاتب المسيرة في بناية طانيوس سابا المجاورة لمقر قيادة القوات اللبنانية. جيراننا في طابق المسيرة كانت فرقة “التيوس” المؤيدة لخط الدكتور جعجع. كانت ليلة باردة ورغم المدفأتين الكهربائيتين قرب سريري في مكتبي، بقي الأنف بارداً كأنه يشم رائحة معركة. ومع مطر صباحي خفيف انهمر رصاص كثيف، فقفزت من سريري، بينما أسرعت فرقة “التيوس” إلى مواقعها المقررة في المعركة. يا لها من بناية “طانيوس سابا”. في الثالث: فرقة التيوس، والدائرة الإعلامية، والمسيرة، في الرابع مكتب كريم بقرادوني. في الثاني مكتب الاستاذ جورج عدوان للامانة العامة ومكتب العلاقات الخارجية. ومكتب الجبل في الارضي وأيضاً محلات لبيع الأدوات المكتبية! لم تكن معرفتي بالدكتور جعجع حتى تلك الأيام وطيدة. كنت مع “انتفاضة 12 آذار” من دون يسألني أو أسأله، وكنت ضد “الاتفاق الثلاثي” قلباً وقالباً. حرب “الاتفاق الثلاثي” بدأت فعلياً في 9 أيار 1985. سبق الانقلاب رسائل من “انتفاضة 12 آذار” لمنع تدخل عسكري سوري، في حين كان حبيقة قد فتح قنوات سرية متقدمة مع النظام السوري من دون علم مجلس القيادة. في الرسائل كان بقرادوني الكاتب وساعي البريد، وفي العلاقة المشبوهة مع سوريا برز ثلاثة ميشالات: ميشال عون، ميشال سماحة، ميشال المر. وبعد سيل “التهويل الحبيقي” والقصف السوري العنيف يرتب حبيقة انقلاباً ناعماً في مجلس القيادة. ستة صوتوا معه وستة ضده بينهم جعجع وبقرادوني، وبدأ إيلي حبيقة سياسة “تسريع الخطوات وحرق المراحل” علَّ قوة الاتفاق مع سوريا تكرسه الزعيم الأوحد للمسيحيين. لم يعد راغباً حتى بأي حليف، فأي حليف قبل “الاتفاق الثلاثي” هو شريك مضارب بعده! يوم التوقيع على الاتفاق في دمشق، دخلتُ في موكب الصحافيين الذين سيرافقون حبيقة إلى مراسم التوقيع. عرفنا في المسيرة أن نقطة تجمع الصحافيين ستكون مستديرة جعيتا. فذهبت أنا والرفيق والصديق روجيه… ووضعنا رأسينا بين الرؤوس. مر مسرعاً موكب حبيقة ومعه في السيارة كريم بقرادوني وسحب معه موكب الصحافيين. من جعيتا إلى القليعات إلى بكفيا إلى حاجز عين التفاحة. غازي كنعان كان في انتظار الموكب عند الحاجز السوري، واعتقد كان معه ميشال سماحة. توقفت السيارات وجرى تبادل بين الركاب. حبيقة صعد في سيارة كنعان، ومن بين المترجلين لتبديل السيارات مَشيتُ واثقَ الخُطوة للصعود إلى جانب حبيقة وسائقنا غازي كنعان! بكل ثقة فتحت باب السيارة الخلفي، فنهرني حبيقة “إنت شو عم تعمل هون؟ مين جابك؟” كاد لا يُصدق عينيه! المسيرة هنا؟ ورغم ضربات قلبي المتسارعة، وببرودة البريء تمتمت شفتاي “خلص بطلع بسيارتك”! أول زيارة في حياتي إلى سوريا كانت بسيارة إيلي حبيقة! إلى جانبي جلس روجيه وراح يتحايل لتصوير مرابض المدفعية السورية البادية على طريق ترشيش. في ذلك اليوم تُركنا على الرصيف أمام مكتب عبد الحليم خدام في حي رمانة، ثم نُقلنا مساء إلى فندق الشيراتون دمشق. كنا “شاهد ما شافش حاجة”، وأُحضرنا للتعتيم بدل التغطية! قرب مكتب خدام حديقة عامة، حاولت أن أفهم سوريا كلها من خلال التحدث مع سوري في سوريا! تصيدتُ مواطناً يلعب بسبحته وبعد السلام والتعارف انتهى الحديث بقوله “مش حرام البعث العراقي يعمل هيك بلبنان”! عدت سالماً يومها وكتبت تحقيقاً بعنوان ملتبس: “الطريق الى الشام… طويلة”. وأتذكر من التحقيق هذا السطر: “على الطريق تمر قربنا شاحنات عسكرية من نوع “تاترا” تتمناها سريعة الذوبان!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!