أخبار محلية

كارين عبد النور ـ من وعد بلفور إلى “طوفان الأقصى”: انتكاسات القضية الفلسطينية بين أوهام الداخل وأطماع الخارج (الجزء 3 من 4)

 

الحرة بيروت ـ بقلم: كارين عبد النور

مرّت القضية الفلسطينية بمراحل متعدّدة، ارتبطت كل منها بهزيمة جديدة؛ بدءًا من الانتداب البريطاني مرورًا بنكبة العام 1948، وما تلاها من نكسة 1967، إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وصولًا إلى مسارات التسوية الهشّة والصدام الدامي – في الداخل الفلسطيني وخارجه – التي زادت الوضع تعقيدًا.

عرضنا في الجزئين الأول والثاني علاقة ألمانيا القيصرية والهتلرية والحركة العربية بالقضية الفلسطينية، كما توالي الانتكاسات الفلسطينية على يد العرب أنفسهم والناصرية. ونتطرق في هذا الجزء، ما قبل الأخير، مع المؤرخ والباحث في الشؤون اللبنانية، الدكتور عبد الرؤوف سنّو، إلى انتفاضتَي الحجارة والأقصى وصولًا إلى التنازع على السلطة في غزة بين حركتَي “فتح” و”حماس” وتداعيات ذلك على الشارع الفلسطيني.

إنتفاضة الحجارة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان والأردن

نشط العمل الفدائي الفلسطيني في النصف الثاني من الستينيات، من الأردن وبعده من لبنان، ما أثلج صدور العرب والفلسطينيين، كونه شكّل البديل لفشل الأنظمة العربية في تحرير فلسطين. وتضخّمت الفصائل الفلسطينية على كل الأوجه، حيث كان يُسجَّل أحيانًا أكثر من خمسين عملية يومية ضدّ إسرائيل عبر الأغوار وحدود لبنان الجنوبية، بعدما أصبح للفصائل منطقة “فتح لاند” في العرقوب بموجب “اتفاق القاهرة” في العام 1969.

في هذا السياق، يشير سنّو إلى أن الفلسطينيين لم يكتفوا بما حصل بل أخلّوا بالتوازنات الحسّاسة بين طوائف لبنان، وشنّوا عمليات فدائية في الخارج ضد إسرائيل (منها عملية ميونخ ضدّ المنتخب الأولمبي الإسرائيلي في العام 1972، وخطف الطائرات الإسرائيلية). “صحيح أن ما قاموا به لفت انتباه العالم إلى القضية، لكنه أدّى إلى اعتبار الغرب الفدائيين مجرّد إرهابيين. وكان للمقاومة الفلسطينية تداعيات خطيرة على الأردن ولبنان تحديدًا. ففيما تمكّن الأردن من القضاء على الجيب الفلسطيني المسلَّح داخل حدوده، والذي شكّل تهديدًا لنظام الملك حسين في العامين 1970 و1971، حصل نزوح فلسطيني مسلَّح من الأردن إلى لبنان عقب “أيلول الأسود””.

من جهّتها، سهّلت سورية مرور الفدائيين إلى لبنان لتحويله منطقة متفجّرة تسهيلًا لدخولها إليه. فاندلعت حرب داخلية بين العامين 1975 و1990، حيث كان النظام السوري يتلاعب بالفلسطينيين واللبنانيين سواءً بسواء. فبينما كانت منظمة “الصاعقة”، بقيادة زهير محسن، تأتمر بأوامر المخابرات السورية، ائتمرت “جبهة التحرير العربية” بأوامر العراق. أما حركة “فتح”، فتبعت مصر وبعدها السعودية. بدورها، انضوت الفصائل اليسارية تحت لواء اليسار الدولي. كما أغدق العقيد معمر القذافي الأموال على منظمات فلسطينية، طارحاً مشاريع قروسطية للأزمة اللبنانية.

فإلامَ أدّى ذلك؟ “خرجت المنظمات الفلسطينية عن هدفها الوطني لتحرير فلسطين، وأصبحت تتبع أنظمة استبدادية فاشلة، فإما انغمست في صراعاتها البينيّة أو غرقت في مستنقع المكاسب المادية. وبقي الحال كذلك إلى حين زيارة الرئيس أنور السادات إسرائيل سنة 1977، وتوقيع مصر معاهدة السلام مع الأخيرة عقب اتفاقيتي كامب ديفيد سنة 1979، مرورًا بخروج منظمة التحرير من لبنان سنة 1982، وياسر عرفات نفسه من مدينة طرابلس في العام التالي. وحتى ذلك التاريخ، اعتُبرت الفصائل الفلسطينية “أيقونة مقدّسة” من قِبَل كثيرين، دون تطوير بُعد تأسيسي أو نظري يحلّ محلّ النضال الفدائي”، بحسب سنّو.

ظهور حماس وسقوط الرهان على الأنظمة العربية ومنظمة التحرير

في العام 1987، تحوّل النضال الوطني الفلسطيني إلى الداخل، وإلى نمط جديد يقوم على سلاح آخر: الحجارة و”النقّيفة” وقنابل المولوتوف والإطارات المشتعلة. واستمرت انتفاضة الحجارة الأولى حتى العام 1993، إذ جاءت نتيجة الاحتقان الفلسطيني والعنصرية الإسرائيلية ونسيان الأنظمة العربية بالإجمال قضية فلسطين.

ويتابع سنّو: “استخدمت إسرائيل كل أنواع العنف لإخماد الانتفاضة، وصولًا إلى تهشيم عظام الأطفال المنتفضين. وهذه المستجدات كانت وراء ظهور “حماس” كمنظمة بديلة عن الفصائل الغارقة في الفساد، معلنة مواجهة شاملة مع الإسرائيليين بزعامة مؤسّسها، الشيخ أحمد ياسين. وتواصلت الانتفاضة، رغم التضحيات الفلسطينية والاعتقالات، حتى توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، التي سبقتها حرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء) في العام 1990، عقب احتلال صدام حسين للكويت وفق تقديرات خاطئة. فخمدت الانتفاضة جرّاء التخلّي عن الكفاح المسلَّح، وانتقل الفلسطينيون إلى مرحلة السلام مع إسرائيل وباكورتها المصافحة التاريخية بين عرفات وإسحق رابين في البيت الأبيض، وإقامة سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، بموافقة عربية”.

هكذا، لم تؤدّ الانتفاضة سوى إلى إفهام الإسرائيليين أن الشعب الفلسطيني ماضٍ في رفض تهويد بلده، حتى إزالة إسرائيل من الوجود. وفي حين أصبحت مصر خارج المعادلة العربية منذ توقيع السلام مع إسرائيل، خرج العراق كقوة عربية على إثر حرب الخليج الثانية، بعدما راهن عرفات والفلسطينيون على صدام حسين كنصير للقضية الفلسطينية – خصوصًا عندما أطلق رشقة من صواريخ “سكود” السوفياتية غير الدقيقة على إسرائيل. وقد ترافق انطلاق مرحلة السلام بين منظمة التحرير وإسرائيل مع خسارة الفلسطينيين رهان تحريري آخر بالاعتماد على الأنظمة العربية، وعلى منظمة التحرير التي نحت منحى التسوية السلمية التي خيّبت آمال الشعب الفلسطيني.

انتفاضة الأقصى العام 2000

رغم اتفاقية أوسلو وقبول منظمة التحرير الاعتراف بإسرائيل، وتعديل الميثاق الوطني، في مقابل نشوء سلطة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لم يحلّ السلام الحقيقي على الفلسطينيين والإسرائيليين. وأدّى الانقسام في المجتمعين المدني والسياسي الإسرائيليين إلى اغتيال رابين في العام 1995 على يد قومي إسرائيلي متطرّف، فيما اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين في العام 2004. وبيّنت الأحداث، منذ أوسلو، أن إسرائيل تريد السلام مع الاحتفاظ بالأرض معًا. فزادت من وتيرة الاستيطان في الضفة، فيما فقدت منظمة التحرير هيبتها، وأصبح عرفات مقيمًا شبه سجين في مقرّه في رام الله حتى وفاته مسمومًا هو الآخر في العام 2004.

يرى سنّو أن الأوضاع المتخمرة أنشأت خلافات بين نهجَي السلام (منظمة التحرير) والمقاومة (الإسلامية)، إبان اندلاع الانتفاضة الثانية وعقب اقتحام أرييل شارون للمسجد الأقصى بحماية عسكرية، واعتبار الحرم القدسي ممتلكات إسرائيلية. “امتدّت المواجهات من القدس إلى الضفة وغزة. وبدلًا من الحجارة، تحوّلت المواجهات إلى عسكرية بالرصاص الحيّ والصواريخ. وقد عمل شارون على اغتيال قيادات فلسطينية من الصف الأول، واعتقال آخرين. وبسبب أحداث مركز التجارة العالمي في نيويورك في العام 2001، نجحت إسرائيل بكسب تعاطُف عالمي عبر صبغ “حماس”، ومنظمات إسلامية أخرى، بصبغة الإرهاب على قدم المساواة مع تنظيم “القاعدة” الذي رمى إلى إنهاء الوجود الأجنبي في العالَمين العربي والإسلامي، وافتقد مشروعًا وطنيًا”.

أوقف اتفاق الهدنة في شرم الشيخ بين الفلسطينيين والإسرائيليين مطلع العام 2005 الانتفاضة الثانية التي ذهب ضحيّتها زهاء 4,500 فلسطينيًا وإصابة نحو 50 ألفًا آخرين. وكان أبرز عوامل وصول الانتفاضة إلى نهاية سلبية هو حرب الخليج الثالثة التي شنّتها الولايات المتحدة وبريطانيا وحلفائهما على العراق في العام 2003. فعلّقت “حماس” انتفاضتها خشية أن تطالها عدوانية أميركا تحت ستار القضاء على الإرهاب الإسلامي.

تنازُع “فتح” و”حماس” على السلطة في غزة

لم ترتبط الصدامات بين الحركتين في العام 2007 بالصراع على السلطة فحسب، بل إلى تنافُس بين استراتيجيّتين ونهجين لمقاربة القضية الوطنية. فـكانت “فتح” الفصيل الطليعي المؤسس لمنظمة التحرير، ودعمت خيار عرفات في السلام في أوسلو والاعتراف بإسرائيل. فيما انتهجت “حماس” طريقًا مغايرًا، وهو الكفاح المسلَّح من منطلق إسلامي حتى إزالة إسرائيل من الوجود.

وتزامن ذلك مع انحسار سمعة منظمة التحرير بعد أوسلو، وسعي “حماس” إلى تبوّؤ السلطة، ومطالبتها بإصلاح المنظمة التي ينخرها الفساد. وقد حاول كل طرف القضاء على الأخر بعد انسحاب إسرائيل من جانب واحد من غزة في آب/أغسطس 2005. وقد فشلت المصالحة بينهما، وسط تبادُل الاتهامات والاشتباكات المسلّحة والتسابق على تمثيل الشعب الفلسطيني، بعد إحراز “حماس” أكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني مطلع العام 2006.

فكيف أثّرت حرب “تموز 2006” بين “حزب الله” وإسرائيل على مجرى الأحداث؟ “وجد الملك السعودي، عبد الله بن عبد العزيز، أن الأمور تتدهور في العالم العربي، فعمل على خطّي لبنان وفلسطين. وبالنسبة إلى موضوعنا، دعا إلى لقاء في مكة في شباط 2007، والمصالحة بين “فتح” و”حماس”، ونصّت بنود الاتفاق على وقف الاشتباكات وتشكيل حكومة وحدة وطنية وإصلاح منظمة التحرير. لكن قبل أن يجفّ حبر الاتفاق، انقلبت “حماس” عليه في صيف العام نفسه، وسيطرت على الوضع في غزة. علماً أن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا الاتفاق، ودخول “حماس” مع السلطة الفلسطينية في حكومة وطنية، لعدم اعتراف الأولى بإسرائيل. والواقع أنه لم يكن توحُّد الفلسطينيين من مصلحة الدولتين. فعملتا على إفشال التقارب، إلى جانب مصالح بعض الدولة العربية في إفشال الاتفاق أيضاً”.

هكذا، أجهز الفلسطينيون – بأيديهم هذه المرة – على وحدتهم الداخلية التي لطالما اعتبرتها إسرائيل نقيضاً لمصالحها. فحكمت “حماس” في قطاع غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة. ومذّاك، فشلت جهود بعض الدول، كمصر والسعودية، في توحيد الصف الفلسطيني، فيما كانت إسرائيل المستفيد الأكبر من انقسام أهل البيت الواحد. وبانضمام “حماس” إلى محور إيران، تراجع دعم مصر ودول الخليج العربي (عدا قطر). وقيل إن “حماس” أفشلت اتفاق مكة لمصلحة إيران التي سينكشف زيف دورها منذ ذلك الحين في محو إسرائيل ودعم الممانعات الأصولية في المنطقة، وبالتالي تقزيم أدوار العرب أصحاب القضية الفلسطينية الأصليّين.

“طوفان الأقصى” ومستقبل القضية الفلسطينية في عهد الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، في الجزء الرابع والأخير.

كارين عبد النور ـ من وعد بلفور إلى “طوفان الأقصى”: انتكاسات القضية الفلسطينية بين أوهام الداخل وأطماع الخارج (الجزء 3 من 4)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!