الحرة بيروت – بقلم: كارين عبد النور
11 مليار و200 مليون دولار هي تكلفة حرب بدأت من باب مساندة غزة وأهلها وانتهت فوق أنقاض لبنان وجثث اللبنانيين. الرقم يعيد تسليط الضوء على هشاشة التوازنات الإقليمية وتأثيرها العميق والمباشر على الداخل اللبناني الهش حتى النخاع. المواجهات العسكرية بقيت محصورة في مناطق عمليات معيّنة دون سواها. غير أن الأضرار، بحسب الدولية للمعلومات، بلغت ضعف ما سبّبته حرب تموز 2006. فجحيم المعارك أرخى بظلاله على كافة القطاعات المتهالكة أساساً، وكثّف التساؤلات حول مستقبل لبنان وسط صراعات المنطقة المتناسلة.
طبعاً، قد تكشف الأيام عمّا هو أدهى. لكن تقارير مختلفة تعطينا صورة أشبه بجردة أوّلية لنتائج الحرب على المستوى الإنساني، العمراني والاقتصادي. وإن كانت الأرقام تدلّ على شيء، فعلى ضرورة تجنُّب تكرار سيناريوهات مشابهة وإيجاد مسارات أكثر أماناً للحفاظ على السلم الداخلي تقي لبنان “شظايا” عدم الاستقرار الشرق أوسطي. يكفي أنه، بحسب مراقبين، تحتاج عملية إعادة الإعمار إلى ما لا يقلّ عن أربع إلى خمس سنوات شرط توافر التمويل الكافي.
بشرياً واجتماعياً
وصف المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، الوضع الدراماتيكي الذي شهده لبنان خلال الأعمال الحربية الأخيرة بالأكثر دموية ودماراً للبلد وشعبه منذ عقود. إذ قضى على الأقل طفل واحد يومياً وأصيب ما لا يقلّ عن عشرين آخرين منذ اندلاع النزاع في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023. وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، فقد تخطى عدد القتلى الـ4000 شخص، في حين قارب عدد الجرحى 16000 جريح، عدا عن المفقودين وعناصر حزب الله الذين لم يتمّ الإعلان رسمياً عن مقتلهم.
وأشارت الحكومة اللبنانية إلى أن أكثر من 1.4 مليون نازح هُجّروا من مناطقهم، ما يمثّل نحو 20% من سكان لبنان، الأمر الذي لم تشهد البلاد له مثيلاً في أي من الحروب السابقة. وبالعودة إلى الدولية للمعلومات، فقد تراوحت أعداد النازحين داخل لبنان بين 890 و900 ألف نازح، فيما بلغ عدد المقيمين في مراكز الإيواء حوالى 190 ألف شخص مقابل 700 ألف آخرين نزحوا إلى بيوت سكنية أخرى. أما النازحون إلى الخارج، بحسب قناة “فرانس إنفو”، فقد عبر أكثر من 557 ألف منهم الحدود البرية نحو سوريا خلال الأسابيع الماضية (80% منهم نساء وأطفال)، في حين توجه حوالى 40 ألف فرد إلى العراق، و150 ألفاً إلى دول أخرى.
ولفتت الأمم المتحدة إلى مواجهة النازحين وضعاً مقلقاً في ما خص أمنهم الغذائي، واضعة لبنان على قائمة “النقاط الساخنة”. فالتقارير تتحدّث عن أن 1.3 مليون فرد تتهدّدهم مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم 85 ألف فرد باتوا في حالة مزرية تستدعي التدخل الطارئ.
دمار تحت الأرض وفوقها
وقالت الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام إن معظم المدارس والمراكز الصحية ومباني البلديات إما أصيبت بأضرار جسيمة جرّاء الضربات الإسرائيلية، أو دُمّرت بالكامل. ووفقاً لليونيسف، جرى الإبلاغ عن أكثر من 13500 عملية قصف إسرائيلية في جميع المناطق اللبنانية خلال الشهرين الأخيرين. كما قُدّرت أضرار الوحدات السكنية – التي بلغ عددها 220 ألف وحدة – بـ4 مليارات و950 مليون دولار، توزّعت بين أضرار كلية أو جزئية.
وتوضح أرقام الدولية للمعلومات أن أضرار البنى التحتية قاربت 580 مليون دولار (مقارنة بـ900 مليون دولار في العام 2006). بينما لفت مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن الأضرار التي لحقت بالمناطق الزراعية طالت أكثر من 1900 هكتار من الأراضي الواقعة في محافظة جنوب لبنان والمحافظات المجاورة. أما اليونسكو، فأعلنت أن التراث الثقافي اللبناني تضرّر هو الآخر، ما جعلها تضع 34 موقعاً لبنانياً تحت حماية معزّزة وفقاً للبروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي التي تهدف إلى حماية التراث في حالات النزاع المسلّح.
حزب الله منهك وإسرائيل متكتّمة
أودت العمليات العسكرية الإسرائيلية، والغارات الجوية تحديداً، بحياة العشرات من قادة الصف الأول في حزب الله، على رأسهم الأمين العام السابق، حسن نصر الله. كما جرت تصفية شخصيات بارزة، مثل رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، الذي لطالما اعتُبر بديلاً محتملاً لنصرالله. وبحسب وزارة الصحة اللبنانية، سقط ما لا يقلّ عن 37 قتيلاً وأصيب 3000 آخرين بإعاقات دائمة نتيجة عملية تفجير أجهزة “البيجر” غير المسبوقة والتي استهدفت مسؤولي حزب الله وعناصره.
ثمة تقديرات بأن الحزب فقد بضعة آلاف من مقاتليه خلال المعارك. في المقابل، هناك تعتيم بما خصّ خسائر الأرواح على الجانب الإسرائيلي. إذ تشير تقارير صادرة من هناك إلى مقتل 49 جندياً خلال محاولات التوغّل البري في المناطق الحدودية. وكانت السلطات الإسرائيلية قد أشارت إلى مقتل 47 إسرائيلياً بنيران حزب الله منذ اندلاع الحرب.
خسائر اقتصادية مباشرة وغير مباشرة
نأتي إلى أثر الحرب على تراجُع إيرادات الدولة اللبنانية. وهنا نتحدّث عمّا يمكن إعادة تحصيله وما يندرج ضمن الخسائر غير القابلة للتعويض. ومن بين الخسائر، مثلاً، هناك رسم الخروج المفروض على المسافرين عبر مطار بيروت الدولي والذي بلغت خسائره 11 مليون و500 ألف دولار خلال شهري أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2024، بسبب تراجُع أعداد المغادرين بما لا يقل عن 322 ألف مسافر مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.
وكانت الأمم المتحدة قد حذّرت الشهر الماضي من تردّي الأوضاع الاقتصادية في لبنان وتوقعت انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.2% للعام 2024. وأوضحت الدولية للمعلومات أن إجمالي خسائر الانكماش الاقتصادي (بين 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و16 أيلول/سبتمبر 2024) بلغ 3 مليارات و860 مليون دولار. في حين بلغت الخسائر، بين 17 أيلول/سبتمبر الماضي ومنتصف الشهر الحالي، 4 مليارات و950 مليون دولار، لتُقدَّر قيمة الأضرار الكلية بـ9 مليارات دولار. وإذا ما أضفنا أضرار البنى التحتية وأضرار أخرى غير مباشرة، يلامس المجموع 11 مليار و200 مليون دولار.
بحثاً عن نهج متوازن
مع التوصّل لاتفاق وقف إطلاق النار، تنفّس اللبنانيون الصعداء بحذر. لكن ليس خافياً أن لبنان يقف عند مفترق طرق حسّاس يفرض على المعنيين إعادة التفكير في وضع أسُس استراتيجيّتيه الوطنية والإقليمية وتمتينهما. فالخسائر التي تكبّدها البلد، المباشر منها وغير المباشر، تؤكّد أن ثمن الانخراط في صراعات خارجية يفوق بأضعاف أي مكاسب مرجوّة.
التعويل على تضامن دولي ما لإعادة الإعمار ورقة “محروقة” في يد سياسيّي لبنان، كما تخبرنا التجارب المرّة السابقة. لذا، بات ضرورياً تبنّي نهج متوازن يهدف إلى حماية البلد واستقراره. نهج يعزّز الحوار الداخلي المفقود بين مختلف القوى السياسية، ويعتمد سياسة خارجية تُجنّب لبنان مطحنة الصراعات الإقليمية. عندها، ربما عندها فقط، يلوح أمل بمستقبل مستقرّ وآمن لشعب يستحق الحياة.
كارين عبد النور – كلفة الحرب الأوّلية تتخطّى 11 مليار دولار… هل يستخلص لبنان العبر؟