كتبت الصحافية كارين عبد النور في موقع الحرة 7
كما في حروب كثيرة، تشكّل حرب معلومات الجواسيس على مقلبَي النزاع العسكري الدائر بين إسرائيل، من جهة، وإيران و”حزب الله”، من جهة ثانية، أرضاً خصبة لصراع استخباراتي متواصل. وهو صراع زادته الجولة الراهنة من الأحداث تبلوراً. ورغم عدم تصدُّر “الحرب الخفية” هذه العناوين الرئيسة – على غرار المواجهات العسكرية التقليدية وأكلافها البشرية والمادية – إلّا أنها لا تقلّ شراسة ومحورية. إذ غالباً ما تدور رحاها في الظل ويتسابق بواسطتها الجانبان لجمع الإحداثيات وتجنيد المخبرين وزرع العملاء، بهدف تعطيل أحدهما لمصالح الآخر وتدمير بنيته الاستخباراتية.
بينما تهدف إسرائيل – التي تعتبر “حزب الله” امتداداً للتأثير الإيراني في المنطقة – بشتى الطرق للحدّ من نفوذ طهران في لبنان وسوريا، تسعى إيران – ومعها “حزب الله” – بالمقابل لتعزيز قدراتها الاستخباراتية لموازنة التفوّق التكنولوجي الإسرائيلي. إنها حرب “معتمة” تجعل الصراع يترنّح على حافة الاضطراب المستمر، وتدفع بالوكالات الاستخباراتية لتفعيل دورها، ليصبح اللعب فوق رقعة الشطرنج هذه جزءاً لا يتجزأ من المجهود الحربي الأشمل.
نجحت إيران في زرع جواسيس إسرائيليين من الطائفة اليهودية لرصد الأفراد في قاعات الطعام وغرف النوم. وهو ما فشلت به سائر الدول العربية، باستثناء مصر وقصة العميل رأفت الهجان الذي أرسلته القاهرة إلى إسرائيل في العام 1956، وتمكّن لسنوات طويلة من التجسّس وإمداد جهاز المخابرات العامة المصرية بمعلومات مهمة تحت غطاء مصالح تجارية واسعة وناجحة في تل أبيب.
وفي ضربة قاسية للدوائر الأمنية الإسرائيلية، سرّبت مجموعة “هاكرز” إيرانية معلومات حسّاسة حول الوزير السابق في حكومة الحرب الإسرائيلية، بيني غانتس. فقد كشفت الصور والوثائق المسرَّبة تفاصيل صادمة عن حياة غانتس، كاشفة النقاب عن علاقة سرية كانت تربطه بالمدعوّة عيدي صباغ، إحدى الشخصيات البارزة في هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي والتي تحمل أسراراً تخص قضايا مصيرية حول أمن إسرائيل ومصالحها العليا. التسريبات، التي لم تُكذّبها السلطات الإسرائيلية حتى الآن، تضمّنت إحداثيات دقيقة للمبنى والشقة التي كان غانتس يقضي فيها لياليه مع صباغ في تل أبيب. كذلك، كشفت المجموعة عن جاسوس كان يعمل لصالح غانتس داخل الدوائر المقرّبة من رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، حيث كان ينقل له معلومات حسّاسة ويتواصل معه سراً في لندن.
يشير رئيس المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، جاسم محمد، في حديث لجريدة “الحرة”، إلى أن وكالات الاستخبارات تلعب دوراً حاسماً في ضمان نجاح العمليات العسكرية، حيث يمكن للمعلومات التي تجمعها أن تساعد القادة العسكريين على اتخاذ قرارات صحيحة، ما يمنحهم ميزة استراتيجية في المعارك والحروب. وغالباً ما يكون عمل وكالات الاستخبارات إبان الحروب محاطاً بالسرية .كما تلعب هذه الوكالات دوراً رئيساً في تحديد وتحييد التهديدات للعمليات العسكرية. وتقوم الأجهزة بتقييم المعلومات المتعلقة بقوة وأنشطة ومسارات العمل المحتملة للدول الأجنبية أو الجهات الفاعلة غير الحكومية التي تكون عادةً عدواً أو معارضاً.
وبالعودة إلى الخرق الإيراني التجسّسي، يشرح محمد أن إيران سعت (منذ اغتيال أربعة من العلماء النوويين الإيرانيين ـ مسعود محمدي، مجيد شهرياري، داريوش رضائي نجاد ومصطفى أحمدي روشن – في طهران بين عامَي 2010 و2012) إلى رفع قدراتها الأمنية والاستخباراتية للحدّ من خروقات الاستخبارات الإسرائيلية على أراضيها. وأضاف: “تمكّنت إيران من التزوّد بالتكنلوجيا الحديثة، رغم العقوبات المفروضة عليها، من خلال شبكة عملاء سريّين يتحركون داخل دول أوروبية تحت غطاء تجاري ومن جنسيات وعبر شركات تعمل تحت “عَلَم ثالث” تجنّباً لإثارة الشكوك. واستغلت تجنيد مواطنين من حملة الجنسيات المزدوجة ويعيشون خارج إيران وبعضهم من أصول يهودية وتربطهم علاقات عائلية داخل إسرائيل. أما أساس التجنيد، فيكون في الغالب لأسباب مالية وأحياناً بسبب معارضة المجنَّدين للسياسات الإسرائيلية”.
في هذا السياق، أعلنت الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن العام “الشاباك” في بيان مشترك الشهر الماضي عن إحباط شبكة تجسّس مكوّنة من سبعة مواطنين إسرائيليين يعملون لصالح الاستخبارات الإيرانية. فإلام تسعى إيران؟ “إنها تريد إثبات حضور استخباراتي تجسّسي داخل إسرائيل ردّاً على عمليات التجسّس والخروقات الكبيرة للاستخبارات الإسرائيلية داخل إيران. لكن بدت هذه العمليات ضعيفة، ولم تصل إلى غاياتها. وربما يعود السبب إلى “تسرُّع” إيران في تنفيذ هكذا نوع من العمليات على عجل، لذا لم أجدها دقيقة ولا حتى موفّقة. لكنها تُحسَب مع ذلك للاستخبارات الإيرانية كون هذا النوع من العمليات يقلق الحكومة والاستخبارات الإسرائيلية، ويتسبّب بفجوة داخل المجتمع الإسرائيلي”.
بالمقابل تفيد تقارير عدّة إلى نشاط شبكات تجسّس إسرائيلية داخل إيران. ومن مساهماتها إفشال خطط إيران النووية والعسكرية، واستهداف مسؤولين وعلماء إيرانيين. وقد يكون اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، اسماعيل هنية، في طهران أحد الدلائل. فهل نحن أمام معادلة متكافئة في الخروقات التجسّسية بين البلدين؟ “استهدفت الاستخبارات الإسرائيلية علماء وفيزيائيين إيرانيين معنيّين بملف الطاقة النووية، مثل محسن فخري زاده، من أجل عرقلة جهود إيران في تنفيذ برنامجها النووي. أما المعلومات المسرَّبة عن اغتيال هنية، فكشفت أنه جاء نتيجة تفجير جهاز زُرع في مكان إقامته، ما يؤكّد حجم الخرق الإسرائيلي الكبير في الداخل الإيراني”.
إن قدرة الاستخبارات الإسرائيلية على تنفيذ هذا النوع من العمليات، والتي تُعتبر نوعية ودقيقة من حيث الهدف والمكان والتوقيت، يثير تساؤلات كثيرة حول مدى الخرق التي تحقّقه الأخيرة داخل إيران. فالتفاوت لناحية القدرات الاستخباراتية والتقنية، بحسب محمد، كبير بين الطرفين، ولا مجال للمقارنة بينهما. أما الحديث عن المواجهات الميدانية وقتال “العصابات” بين “حزب الله” وإسرائيل، فهو مسألة أخرى.
بالحديث عن “حزب الله” ورغم المنظومة الأمنية والاستخباراتية الصارمة التي يملكها، مروراً بإيران، فقد أعلن أكثر من مرة عن كشف خلايا تجسّس أو أفراد متّهمين بالتعامل مع إسرائيل. وهذا يدلّ أيضاً على تمكُّن الأخيرة من إحداث خروقات في منظومة “الحزب” إن من الداخل أوعلى مستوى القيادة. يضاف ذلك إلى تفوُّق إسرائيلي في مجال التجسّس السيبراني والفني. “إن تنفيذ عمليات الاغتيال كانت تتمّ بمساعدة عملاء ميدانيين على مقربة تامة من الخط الأول والثاني لقيادات “حزب الله”. أما عملية خرق وتفجير أجهزة “البيجر” و”الووكي توكي”، فيمكن وصفها بالفشل الأمني لـ”الحزب” من حيث عدم الالتزام بأبسط قواعد أمن الاتصالات والأشخاص والمنشآت، ليخسر “الهالة” التي صوّرت منظومته طيلة سنوات على أنها متماسكة أمنياً وغير مخترَقة. وتعمّق الخرق، بكل تأكيد، مع اغتيال الأمين العام السابق لـ”الحزب”، حسن نصر الله، وغيره من القيادات”، وفق محمد.
ويكمل بأن هذا النوع من العمليات، الذي من شأنه تعطيل منظومة عمل “حزب الله” استخباراتياً وأمنياً، لم يحُل دون إبقاء خلايا الأخير العسكرية فاعلة بسبب آلية العمل والتوزيع ولامركزية اتّخاذ القرار لدى القيادات الميدانية. لكن إلى أي مدى قد تساهم حرب المعلومات والجواسيس في تسهيل أو تعقيد مسار الصراع القائم؟ يجيب محمد بأن الاستخبارات (حيث تنشط حروب المعلومات والجواسيس بشكل حثيث أثناء النزاعات العسكرية) تلعب دوراً لا يقل أهمية عن الحرب في الميدان. وزاد زمن العولمة الأمر تعقيداً بسبب تفشّي الحروب السيبرانية وقدرات الاستطلاع الجوي واستخدام الطائرات بدون طيار.
لا شكّ أن نطاق الحرب الاستخباراتية المستعرة بين إسرائيل وإيران و”حزب الله” يمنح مفهوم الحروب الهجينة بعداً آخر. فلمصلحة أي من الطرفين ستصبّ النتيجة؟ “هذه الحروب الاستخباراتية تأتي في مصلحة إسرائيل بسبب تقدّمها في مجال المعلومات والتجسّس السيبراني كما الاستخبارات التقليدية. لكن، قد تفوق قدرة إيران و”حزب الله” على احتواء الهجمات الاستخباراتية (وحتى العسكري التقليدي منها) قدرة إسرائيل على التحمّل. لذا، قد يكون ثمة رهان من قِبَل طهران و”الحزب” على حرب استنزاف لا تخدم إسرائيل، رغم إبدائهما رغبة في وضع حدّ للتصعيد والمواجهة”، كما يختم محمد.
كارين عبد النور ـ حروب الاستخبارات بين إسرائيل وإيران وحزب الله