بقلم: روني عبد النور
قبل أيام، مرّ “الهالووين” مروره السنوي المعتاد. استطلاع رأي المستهلكين السنوي، الذي أجرته جمعية تجار التجزئة الوطنية الأميركية مؤخّراً، توقّع أن يصل إجمالي الإنفاق على عيد “الاستمتاع بالرعب” لهذا العام 11.6 مليار دولار، مقارنة بـ3.3 مليار دولار في العام 2005. الإنفاق هو نصف الحكاية. أما الرعب – فلنَقُل الخوف الشديد – فنصفها الآخر. الأخير هو أحد عواطفنا المتأصّلة وديناميات ردود أفعالنا المتجذّرة تطوّرياً. لكنه، للمفارقة، قد يكون مفتاح تكيّفنا مع المستقبل المتغيّر أيضاً.
نعود إلى الجذور. فأستاذة عِلم النفس في جامعة “بين ستايت” الأميريكة، سارة كولات، تربط التقاطع بين عِلم النفس وانبهارنا بالخوف بتطوّر مشاعرنا كإحدى الأدوات المساعِدة لنا على البقاء. من جانبها، حاولت دراسة لمجموعة Complexity Science Hub)) البحثية النمساوية، نُشرت في آب/أغسطس الماضي في مجلة “The Royal Society Interface”، تحديد التأثيرات غير الملموسة للخوف ودوره في تشكيل أسُس السلوك البشري وحركة انكماش المجتمعات المبكرة وتوسّعها.
ففي تعاوُن بين مجموعة من علماء البيانات وعلماء الآثار، جرى تجميع بيانات أثرية من مصادر متخصّصة مع التركيز على معلومات تأريخ الكربون المشعّ من مواقع مختلفة في أوروبا العصر الحجري الحديث – أي، ما بين 7000 و3000 سنة قبل الميلاد. وأظهرت النتائج أن أعداد السكان عادةً ما تضاءلت في المناطق المهدّدة بالصراعات بسبب انتقالهم لمناطق أكثر أماناً. لا بل تطابق نموذج عمليات الانتقال تلك، خلال أوقات الخوف المتنامي من الصراعات، مع دورات الازدهار والكساد التي عكستها البيانات المجمّعة.
وحيث أننا، كأفراد، مداميك المجتمعات، فإن سلوكنا المُشبَع خوفاً، أسوة بأي سلوك بشري آخر، له منطلقات هرمونية بالطبع. فعندما يشعر المرء بالتهديد، ترتفع مستويات الأدرينالين لديه، تنشيطاً لاستجابة “القتال أو الهروب” المعزّزة لليقظة، فيزداد معدّل ضربات القلب وتتسارع الأنفاس. وإذ يرفع منسوب الكورتيزول من ضغط الدم، تتمدّد الأوعية الدموية حول الأعضاء الحيوية وتغمرها بالأكسجين والمواد المغذية. في حين أن صعود مستويات الغلوكوز في الدم يمدّ الجسم بالطاقة. لكن بما لا يقلّ أهمية، يفرز الجسم ناقل السعادة والراحة العصبي، الدوبامين، فيُظهر “الخائف” نشاطاً دماغياً أقلّ استجابة للمحفّزات والقلق.
سنة 2021، مثلاً، أظهر باحثون من جامعة “آرهوس” الدنماركية أن من يمضون وقتاً منتظماً في متابعة الوسائط ذات المحتوى المرعب أبدوا مرونة أعلى من الناحية النفسية أثناء جائحة “كوفيد-19” مقارنة بغير محبّذي الرعب. لكن لماذا وكيف تتجاوز مشاعر الخوف منشأها، أي الدماغ، لتنتاب أجزاء أخرى من الجسم أيضاً؟ يقول آراش جافانباخت، الأستاذ المشارك في الطب النفسي بجامعة ولاية “واين” الأميركية، إن استشعار الفرد خطر ما يتزامن مع نقل المدخلات الحسية إلى اللوزة الدماغية. وهناك يجري تشخيص الموقف وكيفية التعامل معه. كما يتدخّل الحُصين واضعاً مشاعر الخوف في سياقها. فوقْع مشاهدة حيوان مفترس في حديقة حيوانات يختلف على مستوى الخطورة عن رؤيته في مكان مفتوح.
والحال أنه إذا قرّر الدماغ أن استجابة الخوف مبرّرة في موقف معيّن، إنما يُنشّط سلسلة من المسارات العصبية. فتُسارع القشرة الحركية للدماغ بإرسال إشارات إلى العضلات إعداداً لردّ فعلها. في الرئتين، مثلاً، تعمل إشارات الجهاز العصبي الودّي على توسيع مجاري الهواء وتزيد معدّل التنفّس وعمقه وضيقه. كما يبطئ التنشيط الودّي نشاط الأمعاء ويقلّل من تدفُّق الدم هناك توفيراً للأكسجين والمواد المغذية لأعضاء أكثر حيوية، ما يولّد شعوراً بعدم الراحة.
بدورها، شرحت دراسة لباحثين في جامعة “كاليفورنيا – سان دييغو” الأميركية – أجريت على فئران وأنسجة بشرية لأشخاص متوفّين ونُشرت في آذار/مارس الفائت في مجلة “Science” – كيف ينشأ الخوف المعمَّم، من منظار كيميائي، بغياب التهديدات الموضوعية. ففي المناطق الواقعة في جذع الدماغ، توجد مجموعات من الخلايا العصبية السيروتونينية التي تنظم عدداً كبيراً من العمليات الأساسية، كاليقظة والجوع والخوف. وقاموا بمراقبة النشاط هناك أثناء سلسلة تجارب خضعت فيها الفئران لصدمات شديدة مختلفة.
بعد تعريضها للإجهاد الحاد، شهدت خلايا عصبية معيّنة في المنطقة المستهدَفة لدى الفئران تغيُّراً، بحسب الفريق. والتغيّر ذاك تسبّب في تثبيط الخلايا العصبية للخلايا المتّصلة بها، بدلاً من إثارتها. أما نتيجة الانعكاس في الإشارات، فهي شعور الفئران بخوف عام حيال بيئات أخرى غير تلك التي تعرّضت فيها للإجهاد. وحيث حلّلوا عيّنات من 12 شخصاً متوفّين، سبق وأصيب نصفهم باضطراب ما بعد الصدمة، وجدوا أن أنسجة جذع الدماغ لدى المصابين بيّنت انخفاضاً ملحوظاً في عدد الخلايا العصبية التي تعبّر، إضافة إلى السيروتونين، عن الغلوتامات (أحد أكثر النواقل العصبية استثارة).
لكن مهلاً. فاستجابة الجزء الدماغي المتفاعل مع الخوف للتجارب الممتعة موصول بتفاعُل هرمونات التوتّر والسعادة. فوفق الدكتورة ليا كرول، أخصائية الأعصاب في جامعة “تيمبل” الأميريكة، بمجرّد أن يدرك الجسم أو الدماغ انتفاء سبب التهديد، يتوقف الأدرينالين عن العمل، ليتمّ بالمقابل إطلاق الدوبامين والسيروتونين. وتعتقد كرول أن مشاهدة ردود أفعال الآخرين تؤثّر على ردود أفعالنا نحن. فمشاركة أحدهم لنا الخوف من أمر ما غالباً ما تسهم بتوطيد العلاقات البينية بين الطرفين. أما الأستاذ المشارك في جامعة “آرهوس”، مالمدورف أندرسن، فيلفت إلى أن الاستمتاع بالخوف أمر منطقي إذا ما نظرنا إليه كشكل من أشكال اللعب، باعتبار الأخير استراتيجية لتعلّم كيفية التعامل مع المواقف غير المألوفة.
للتحقق من العلاقة بين المتعة والخوف، درس أندرسن وفريقه مجموعة أشخاص قصدوا معلم جذب سياحي مسكوناً. وهناك، تطوّع هؤلاء لمعايشة الرعب المتأتّي عن مشاهدة الزومبي والمهووسين والقتلة. وإذ جرت مراقبة معدّلات ضربات قلبهم، سئلوا عن شعورهم في مراحل مختلفة من التجربة. فأشارت النتائج، التي نشرتها سنة 2020 جمعية عِلم النفس الأميركية، إلى أنه قد يكون ثمة “نقطة مثالية” بين الخوف والمتعة. نقطة (لا يكون السياق فيها مرعباً للغاية ولا مريحاً للغاية) تتيح قدراً من النشوة المدفوعة بإطلاق مواد كيميائية دماغية، كالإندورفين والدوبامين.
السياق، إذاً، هو الحدّ الفاصل، وفق جافانباخت. فعندما يزوّد دماغنا “المفكّر” دماغنا “العاطفي” بردّ فعل ما ونشعر بالأمان، تتبدّل الطريقة التي نختبر من خلالها حالة الإثارة العالية – خوفاً أو استمتاعاً. ثم أن أي خلل بين الإثارة الناجمة عن الخوف والشعور بالسيطرة في الدماغ “المفكّر” قد يسبّب إما الكثير من الإثارة أو قدراً غير كافٍ منها. فإذا أدركنا أن التجربة حقيقية للغاية، قد تتغلّب استجابة الخوف الشديد على الشعور بالسيطرة على الموقف. وإن جاءت غير محفّزة كفاية للدماغ “العاطفي”، أو غير واقعية من منظار الدماغ “المفكّر”، فقد يعتريها الملل.
لكن إن كانت الهرمونات أداة رئيسة من أدوات الخوف التنفيذية، قد لا تكون الآلات اللاهرمونية بمنأى عنه هي الأخرى. أو هكذا تنبّه باحثون في شركة “مايكروسوفت” سنة 2019. وهذه مقاربتهم: يعتمد إتقاننا للقيادة بأمان على ردود فعلنا الفيزيولوجية المستدعِية للخوف، ما يبقينا يقظين. لذا، ليس ثمة ما يعيق تقديم نظير تقريبي للقلق لبرامج الذكاء الاصطناعي لمساعدتها على الإحساس والشعور في أوقات خوض غمار المجاذفة.
نصّب الفريق أجهزة استشعار على أصابع مشاركين في التجربة لتسجيل سعة نبضهم أثناء تواجدهم داخل جهاز محاكاة القيادة لقياس منسوب الإثارة. واستَخدمت خوارزمية تلك التسجيلات لتعلّم التنبؤ بمعدّل سعة نبض شخص ما لحظة بلحظة. ثم جرى الركون إلى إشارات “الخوف” هذه كدليل أثناء تعلّم القيادة افتراضياً. صحيح أنه تعيّن على الذكاء الاصطناعي المعتمِد الآلية المذكورة التعرّض للاصطدامات لتعلّم مهارات القيادة الآمنة. لكنه احتاج لاصطدامات أقّل بواقع الربع لمجاراة مستوى أداء الذكاء الاصطناعي غير المتفاعل مع الخوف.
لا غرابة في المقاربة. فالتفاعلات الإنسانية – الآلية آخذة في التقارُب حدّ التماهي. لكن التقارب ذاك يأتي مصحوباً بمخاوف، لا شكّ. يقول مايكل ليفين، عضو هيئة تدريس مشارك في معهد “وايس” للهندسة المستوحاة من البيولوجيا في جامعة “هارفارد” الأميركية، إننا كبشر مدفوعون بالرغبة في خلق خط فاصل حادّ بيننا ــ أو في أفضل الأحوال، بين الكائنات الحيّة ــ وبين الآلات منزوعة الروح. ففي زمن غابر، كان يسهل تحديد معالم هذا الخط حول مفهوم إمكانية امتلاك البشر، بعكس الآلات، لجوهر غير مادي يتحدّى قوانين الفيزياء برمّتها. بيد أن الثورات العلمية المتتالية تمعن في تبديد المعالم من أصلها.
ويعني ذلك الافتراض أن التصوّرات القديمة لم تعد تشكّل دليلاً على العلاقات الغنية والأخلاقية بيننا وبين الذكاء الاصطناعي. وهكذا، يمسي إتقان التعامل مع العقول الاصطناعية الذكية مهمة وجودية للإنسانية جمعاء، كما يضيف ليفين. فالمناقشات التبسيطية التي تطال الآلات تقمع إمكانية ازدهار البشرية مستقبلاً وتصرف انتباهنا عن الحاجة إلى معالجة فجوات أكثر تعقيداً بإزاء قدرتنا على فهم العقول غير التقليدية ومزاوجة الأخلاق والتكنولوجيا في العصر المؤتمَت.
تخبرنا الدراسات أن تشارُك الأفراد لتجارب الخوف المفرط يقوّي الروابط بينهم. وقد يشكّل تشاركاً مشابهاً مدخلاً لشدّ أواصر علاقتنا مع شركائنا الآليين أيضاً. فهل يتحوّل الخوف من الذكاء الاصطناعي إلى أداة تكيّفية مع المستقبل المتغيّر الآتي؟ هذا هو السؤال.
روني عبد النور – الخوف… سلاحنا الفطري للتكيّف مع المستقبل الآلي؟