الحرب الإسرائيلية على لبنان تزداد بشاعة وتصعيداً يوماً بعد يوم. وآخر محطاتها المفصلية اغتيال أمين عام “حزب الله”، السيّد حسن نصرالله. لكن قبل الحدث المفصلي وبعده، تستمر أزمة النزوح الداخلي من مناطق الجنوب والضاحية والبقاع في تشكيل تحدّ كبير، لا بل قنبلة موقوتة، في حال لم تجرِ مقاربته بحكمة ووعي وتخطيط.
بلا أدنى شكّ، إنها في المقام الأوّل مسألة إنسانية وأخلاقية بحتة وجبت مقاربتها بأعلى درجات التضامن والمسؤولية. لكن تجاهُل المحاذير الأمنية والضغوطات الاجتماعية – الاقتصادية المرافِقة قد تفاقم من عمق المأساة. وبالفعل، بدأت الأنظار تتّجه في الأيام القليلة الماضية إلى توتّرات أمنية شهدتها بعض وجهات النزوح نتيجة ممارسات مسلّحة لبعض العناصر الحزبية قد تمعن في زعزعة الاستقرار الداخلي المهتزّ أساساً.
تأتي موجة النزوح الداخلي هذه تزامناً مع معاناة لبنانية مزمنة من تبعات النزوح السوري الكثيف بغياب القرار الداخلي أو الدولي الحازم لمعالجة حاسمة لهذا الملف الشائك. إنما إبّان الحروب، تمسي الحاجة إلى تفعيل البعد الإنساني، إن من حيث تقديم المساعدات أو حماية المدنيين أو احتضان النازحين على اختلاف أهوائهم وانتماءاتهم، ماسّة للغاية. إلّا أنه لا بدّ في الوقت عينه من التنبّه والحذر من خطر الانزلاق في نفق إرباكات أمنية هي آخر ما يحتاجه لبنان في هذا الظرف العصيب.
ويحذّر متابعون من خطر تسبُّب انتشار غير مضبوط لعناصر حزبية مسلّحة برفع حدّة التوترات مع أطراف تحمل موقفاً معارضاً للحرب أساساً، كما خلْق مناطق احتكاك أمنية. ويدور الحديث هنا مجدّداً حول خطر إيقاظ خلايا نائمة، لا سيّما لاستخدامها في مواجهات داخلية إيصالاً لرسائل معيّنة أو تعويضاً عن نكسات في أمكنة أخرى. علماً بأن الاستقطاب السياسي والطائفي في بعض المناطق – على مستوى مختلف الجماعات اللبنانية، عامة، وبيئة “حزب الله”، خصوصاً – قد يخلق أرضاً خصبة لبلبلة وفوضى داخليّتين قد تنفجران في أي لحظة.
زِد إلى ذلك تتبُّع العدو الإسرائيلي بلا رحمة أو هوادة لقيادات “حزب الله”، فتتضاعف مخاطر استهداف مناطق سكنية آمنة بعيدة عن مراكز ثقل “الحزب”، حيث يكون بعض الكوادر والقيادات قد لجأوا مع أُسرهم عن طريق استئجار بيوت أو شقق سكنية. وما حادثة قصف بلدة بعدران في قضاء الشوف (حيث تمّ استهداف منزل يقطن فيه أحد هؤلاء، بحسب التقارير) قبل أيام سوى مثال على ذلك.
في هذا السياق، أشار العميد المتقاعد في الجيش اللبناني، جورج نادر، في حديث لجريدة “الحرّة” إلى عدم إمكانية التعاطي مع أزمة نزوح بهذا الحجم إلّا بما يمليه الدين والإنسانية والوطنية على كل لبناني وفتح أبواب المنازل أمام كل نازح باحث عن ملجأ، مع ضرورة تعزيز الوعي الأمني لدى المواطن، من جهة، ولدى الأجهزة الأمنية، من جهة أخرى، لمنع انعكاس خطر تواجُد أفراد منضوين في “حزب الله”، ومتعقَّبين إسرائيلياً، على سكان المناطق الآمنة.
ودعا نادر إلى ضرورة التمييز بين النازح – من أبناء الطائف الشيعية أكان أم خلاف ذلك – وبين العناصر الحزبية وعدم التعاطي مع الأوّل بأي شكل من أشكال الحقد كون “حزب الله” لا يمثّل أكثر من 30% من البيئة الشيعية. “رغم ذلك، على الأجهزة الأمنية القيام بدورها لرصد أي تحرّكات مشبوهة ومنع المظاهر المسلّحة وإجراء تحرّيات أمنية دقيقة لردع المستهدَفين من قِبَل العدو الإسرائيلي عن اللجوء إلى مناطق سكنية آمنة. فأي اشتباك أو حادث أمني قد يتسبّب بفتنة تزعزع استقرار المناطق الداخلية التي تحتضن النازحين، وهذه خدمة ذهبية يريدها العدو ويتحيّنها”.
بالمقابل، بين تفريغ البلد المتواصل من أهله، هجرة (أو تهجيراً) إلى الخارج، ونزوح أعداد متزايدة من اللبنانيين إلى سوريا نتيجة للحرب الدائرة، وموجة النزوح الداخلي آنفة الذكر، ورفض النازحين السوريين العودة إلى ديارهم، تدور أحاديث عن دور مشبوه لإيجاد “جنوب بلا سكان” لغرض تحويله إلى منطقة نفوذ إسرائيلي. لذا، يبقى التساؤل حول تداعيات هذه المشهدية مشروعاً.
“لا أرى الخطورة في نزوح المواطن الشيعي من منطقة إلى أخرى على أرض الوطن، بل في نزوح السوري الذي يرفض العودة كما ترفض دولته إعادته (تزامناً مع عدم تحمُّل الحكومة مسؤوليتها لتحقيق العودة تلك). لكن هذا لا يعني أن خطر التسليح الحزبي المستفزّ على هامش النزوح الداخلي غير موجود وقد ينتج فتنة داخلية، ما يستدعي تنبّه “الحزب” له”. وختم نادر مشدّداً على الرفض التام لتهجير أبناء الوطن المتضرّرين إلى أي بلد كان باعتبار احتضانهم واجباً وطنياً مهما طالت عمليات إعادة الإعمار.
على أي حال، لا بدّ من التلفّت الحريص إلى لبّ الخطر ومنشئه. فإسرائيل التي راهنت دوماً على الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين، لن تتوانى اليوم، بعد خرقها لنقاط قوة “حزب الله” الأمنية والسيبرانية والعسكرية والبشرية، عن إثارة نزاع داخلي آخر سهل التفجير. هذا في وقت يعاني لبنان من هشاشة غير مسبوقة على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي. فنداءات إعادة اللحمة بين اللبنانيين وتسوية أوضاعهم، كانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة كاملة المواصفات وتسليم المؤسسة العسكرية زمام الأمور، لا يمكن أن تعلو في وقت أكثر حساسية. وقت يستدعي التوقّف عن منْح الأعداء المتربّصين جوائز مجانية تخدم مصالحهم وتطيح بما تبقى من مصالحنا.
المصدر: جريدة الحرة