خاص الموقع

كارين عبد النور:الأدب العربي: من جمود الالتزام إلى حرية التعبير

 

كتبت الصحافية الاستقصائية كارين عبد النور  في مجلة الأمة الثقافية :

 

بين الأدب العربي الملتزم وغير الملتزم، فعلت الإيديولوجيا، على اختلاف منطلقاتها، فعلها عبر السنين. هي بحقّ رحلة من التفاعل المعقّد بين الظروف التاريخية والتحوّلات الفكرية، كما التطوّرات الفنية ورغبة أهل الأدب في الانفكاك عن القيود، سياسية أكانت أو اجتماعية.

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، التصقت فكرة الأدب الملتزم في العالم العربي بشكل رئيس بالقضية الفلسطينية. كما أنها كانت سليلة أدب الواقعية الاشتراكية الذي روّج له الاتحاد السوفييتي، في أوج قوّته، يومذاك. فجاء الأدب معبّراً عن مواقف الكاتب التي تعكس قضايا المجتمع وتحدياته السياسية والاجتماعية أو حتى الأخلاقية. وقد حلّت التغيّرات الاجتماعية والسياسية التي عصفت بالمنطقة العربية، لا سيّما في النصف الأول من القرن الماضي، لتعزّز هذا المفهوم. فقد كان يُتوقّع من الأديب الملتزم أن يسهم في طرح رؤى نقدية تدعو إلى الإصلاح والتغيير، وأن يشكّل من خلال أدبه مرآة لآمال الشعب وطموحه في إحقاق العدالة. وكان شعراء المقاومة الفلسطينية، مثل محمود درويش وسميح القاسم، بعض أبرز من مثّل هذا النوع من الأدب دفاعاً عن حقوق الشعوب وتعبيراً عن توقها إلى الحرية.

لكن، خلال القرن العشرين أيضاً، طرأت تغيّرات تاريخية وثقافية عدّة على العالم العربي. إذ تبدّلت الظروف السياسية والاجتماعية بعد تحقيق بعض الدول العربية، التي كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار أو الأنظمة الاستبدادية، استقلالها. وفي دول أخرى، غزت الشعوب مشاعر الإحباط من سياسات الحكومات، ما دفع بالكثير من الأدباء للنأي عن القضايا الوطنية الكبرى والتركيز على تلك فردية الطابع.
أضف إلى ذلك تأثُّر عدد لا يستهان به من الأدباء بالفلسفة والفكر الغربيين، خصوصاً بعد ازدهار تيارات أدبية على غرار الحداثة والوجودية. وهو ما شجّع هؤلاء على إعلاء شأن التجربة الفردية والوجودية، بدلاً من الالتزام حصراً بقضايا المجتمع ككلّ. وهنا لا بدّ من ذكر الأديبين نجيب محفوظ وصلاح عبد الصبور اللذين انتقلا من الكتابة الملتزمة إلى تلك المسكونة بهموم الفرد ومشاعره الداخلية.

من ناحية أخرى، وبعد فترة طويلة من الالتزام، شعر بعض الأدباء بالحاجة إلى إدخال التجديد على أساليبهم الفنية والانخراط في أشكال أدبية جديدة بعيداً عن الإيديولوجيات الثابتة. فظهر الشعر الحرّ والرواية التجريبية وغيرها من أساليب أدبية أبدت اهتماماً متزايداً باستكشاف النفس البشرية والغوص في العوالم الداخلية والتعبير عن المخاوف الشخصية والوجودية كالعزلة، والاغتراب، والصراع الداخلي. من ناحيتها، تغيّرت اهتمامات طيف واسع من القرّاء مع مرور الزمن، فباتت القضايا الفردية، ومحورها النفس البشرية، تجذب شرائح متزايدة منهم.

لكلّ هذه الأسباب مجتمعة، خرجت كتابة النص الأدبي من حالة جمود الالتزام إلى رحاب حرية التعبير الكتابي. فانتقل محمود درويش، مثلاً، من كتابة “سجّل أنا عربي” إلى “أثر الفراشة”، ولحق به أدباء آخرون كُثُر.

بموازاة ذلك، جهرت حركة القصيدة الحرّة بالخروج عن نمطية الوزن الشعري وقصيدة العمود. فكانت الشاعرة العراقية، نازك الملائكة، رائدة كأوّل من كتب الشعر الحرّ على مستوى الأدب العربي في قصيدتها “الكوليرا” العام 1947.

وهكذا، راحت النظرة إلى الشعر الملتزم النضالي القديم تتبدّل. إذ ساد حاجز فاصل بين التقدير الفني، من جهة، والسياسي (الذي عُدّ أنه يُهبط من مستوى الفن)، من جهة أخرى. لكن، على أي حال، ومهما تطوّرت مسيرة الأدب ومساره عبر السنين، يبقى الإبداع الكتابي متجاوزاً بأبعاده للعصور. لا بل إنه الخيط المتقطّع الممتدّ تجديداً تارة وتقليداً طوراً منذ فجر الكتابة.

بمعنى آخر، ليس ثمة ما يمنع الأدب من أن يرتدي مجدّداً حلّة تقليدية في القرن الحادي والعشرين تماماً كما لفح التجديد الشعر الجاهلي يوماً. فالالتزام أو عدمه، في نهاية المطاف، ليس سوى عصارة تلاقُح الأدب مع ظروف صاحبه ومجتمعه في زمان ومكان معيّنين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!