كتبت الصحافية الاستقصائية كارين عبد النور في موقع الحرة 7 تحت عنوان:
ثمة مخاوف من أن تتمّ عملية إعادة إعمار المناطق المتضرّرة من الحرب الدائرة جنوباً على حساب اللبنانيين جميعاً. فما تيسّر بُعيد حرب 2006 ليس متاحاً اليوم. المساعدات الخارجية شبه معدومة والودائع المصرفية محجوزة حتى إشعار آخر على وقع جوّ من انعدام الثقة بقطاعَي البلد المالي والمصرفي. وهذه وحدها أسباب كافية لأن يرخي المشهد الاجتماعي – الاقتصادي بظلاله القاتمة على مجريات الحياة اليومية. كما أن أزمة النزوح، ببُعديها العابر للحدود والداخلي المستجدّ، معطوفة على خطر تدحرُج كرة الانهيار وتزايُد الهجرة وارتفاع مستويات الفقر تحمل بذور الفوضى والخلل الأمني. فهل يكون الحلّ أمام دولة مترنّحة على شفير الانهيار الاستعانة بما تبقّى من أموال مصرف لبنان – أو، بمعنى آخر، القضاء على ما تبقّى من أموال المودعين – بحجة “الضرورة القصوى”؟
لا أزمة… إلّا إذا
يشير الباحث الإقتصادي، الدكتور محمود جباعي، إلى أن خطة الطوارىء الحكومية تحتاج إلى تمويل، وأن الدولة تستطيع أن تصرف من أموالها في الحساب “36” (والتي تُقدَّر بـ500 مليون دولار “فريش” وحوالى 2.2 مليار لولار) ساعة تشاء، ضمن الموازنة أو ضمن احتياط الموازنة. كما أن هناك مبالغ أخرى تحصّلها الدولة بالليرة ويمكن أن تستخدمها ضمن الموازنة أيضاً.
وأضاف: “حاكم مصرف لبنان بالإنابة، الدكتور وسيم منصوري، كان واضحاً لناحية قراره عدم تمويل الدولة في أي ظرف من الظروف من موجوداته الخارجية، لا بالليرة ولا بالدولار وتحت أي ذريعة كانت، حفاظاً على الاستقرار النقدي. لكن في حال طُرح مشروع قانون في مجلس النواب وجرى التصويت عليه من قِبَل الأغلبية النيابية، فوقتها لكل حادث حديث”.
أمّا عن إمكانية انهيار إضافي في سعر الصرف، فطمأن جباعي إلى أن المركزي استطاع رفع الاحتياط في الموجودات الخارجية بقيمة مليار و700 مليون دولار مقارنة بالعام الماضي. هذا إضافة إلى أن ميزان المدفوعات حقّق فائضاً بقيمة مليارَي دولار مع بداية العام الحالي، ناهيك بالتحويلات الخارجية التي تُقدَّر بحوالى 7 مليارات دولار سنوياً. “ليس ثمة مشكلة على مستوى سعر الصرف من الناحية العلمية والعملانية حتى لو كان هناك ضربة محدودة أو موسّعة. لا خوف على الاستقرار من الناحية النقدية، إذ لمصرف لبنان القدرة الكاملة على التدخل، إلّا إذا كان هناك نية مبيّتة لضرب الاستقرار النقدي”.
صرخة جنوبية
اجتماعياً، نقل أستاذ التربية على المواطنية في الجامعة اللبنانية والمؤسّس في حركة التحرّر الشيعي، الدكتور علي خليفة، شهادات جنوبية حيّة لموقع “مجلة 24”. هناك من يسعى منذ أشهر لتوفير مبلغ من المال لتغطية كلفة نقل بعض الأمتعة والأثاث تحسّباً لتدهور محتمل للأوضاع الأمنية. وثمة من يشارك صوَراً للمحاصيل الزراعية التي أتى عليها القصف كما لبيوت دُمّرت بالكامل. في حين يتساءل آخرون ما إذا كان مال الجهة الخارجية الداعمة لـ”حزب الله”، ويقصدون إيران، سيمحو الخسائر المحقّقة في الأرواح والأرزاق. “تبقى هذه الصوَر ومثيلاتها حيث لا يمحوها رحيل الذاكرة ولا تفادي الحديث المباشر والصريح عن المسؤولية الأخلاقية والوطنية والسياسية وراء كل هذا الدمار العظيم”، بحسب خليفة.
هناك بالطبع مؤيّدون كثُر من أهل الجنوب لما يجري. ولذلك جملة أسباب وظروف لا يتّسع المجال لتناولها هنا. غير أن جنوبيين آخرين يتساءلون: “لماذا يكون لنا “في كل عرس قرص”؟ لقد تعبنا فعلاً. ما هي قضيّتنا نحن اللبنانيين، وهل ربط القضية الفلسطينية بإيران قدّم شيئاً واحداً مفيداً؟ هل تخريب لبنان شرط لمناصرة فلسطين؟ لا نملك ترف الانتظار حتى تنفرج الحالة الاقتصادية، فها نحن نترك أرضنا المهدّدة والمحروقة وننزح إلى مناطق أخرى قد لا تكون بأمان هي الأخرى”.
من هذا المنظار، يرى خليفة أن الحديث عن الكلفة الاقتصادية للحرب يبدو مجرّد تفصيل، لا لعدم أهميته بل لأن الأزمة الاقتصادية السابقة لدخول “حزب الله” على خطّ الحرب كان يجب أن تكفل وحدها ثنيه عن قراره. “وحدها التبعية للخارج والارتهان له يشرحان موقف الحزب من الحرب. ليس اقتصاد البلد ما يهمّهم بل الدائرة الاقتصادية الموازية للاقتصاد الرسمي والبديلة عنه”.
خطر التغيير الديمغرافي
حالة التململ والتهديد المتواصل التي يعيشها سكان الجنوب بتفاصيلها أسفرت حتى الآن عن نزوح أكثر من 110 آلاف مواطن باتجاه الداخل. فكانت النتيجة ارتفاعاً ملحوظاً في بدلات إيجار الشقق والمنازل، ما يدفع للتساؤل حيال تأثير هذا الارتفاع على أسعار العقارات بشكل عام ليكون القطاع العقاري أمام تضخُّم غير مسبوق يقع ضحيّته المواطن اللبناني دون تمييز أو استثناء.
الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق، خالد أبو شقرا، عزا في حديث لموقع “مجلة 24” ارتفاع الأسعار إلى عوامل عدّة. فنزوح أكثر من 100 ألف مواطن من قرى الشريط الحدودي إلى الداخل خلق طلباً إضافياً على الشقق المؤجّرة، لا سيّما وأن الدولة لم تضع خطة طوارئ أو إيواء فعّالة للتعاطي مع عملية النزوح هذه. “خطة الدولة اكتفت بفتح أبواب المدارس أمام النازحين لإيوائهم في حال نشوب حرب موسّعة. غير أن هذه الخطة لم تُفعَّل حتى الساعة. ونحن نعلم أن تجاوُز الطلب للعرض يرفع الأسعار تلقائياً”.
هناك عامل إضافي ساهم في ارتفاع الأسعار: التوقف عن منح قروض الإسكان منذ العام 2019. فتلك القروض كان يعتمد عليها اللبناني بشكل أساسي لتأمين مسكن أو شراء شقة، ما أدّى إلى تراجُع في حجم الطلب. زِد إلى ذلك إحجام الشركات العقارية عن السير قُدماً بالمشاريع الإعمارية، بسبب الأزمة عينها، ما انعكس نقصاً إضافياً في حجم العرض.
ويردف أبو شقرا: “لا أرى أن في الأمر استغلالاً بقدر ما هو احتساب للمخاطر. فكثُر يتخوّفون من أن يكون بين النازحين أفراد ملاحقون أو مستهدفون من العدوّ الإسرائيلي. ويبقى غياب الدولة السبب الرئيس خلف كل ما يحصل. أما الأخطر، فهو توسُّع نطاق الحرب وتمدُّدها باتّجاه مناطق أخرى، ما سيضاعف من أعداد النازحين وبالتالي من أسعار الإيجارات”.
بالعودة إلى خليفة، الخوف الأكبر يتمثّل بأن تتحوّل حركة النزوح مدخلاً لاستقرار النازحين في المناطق التي انتقلوا إليها، خصوصاً وأن عملية إعادة إعمار المناطق المنكوبة لن تكون متاحة بسهولة كما كانت الحال في العام 2006. “تاريخ “حزب الله” شاهد على تغيير معالم الأمكنة كما الثقافة والمجتمع والدين والتربية، ليحلّ محلّها ما يناسب مشروعه القائم على إسقاط الدولة برمزيتها وأنظمتها الرسمية. بعض أشكال النزوح قد تشكّل بداية لأزمة ديمغرافية جديدة بسبب غياب أي فرص موضوعية لإعادة إعمار قرى الجنوب المتضرّرة في المدى المنظور. وهذا، للأسف، رغم الوعود التي يغدقها دون حساب مسؤولو الحزب لامتصاص غضب الناس المتنامي”، كما يختم.